كفى بالله كفيلا
ما أحوج الإنسان في
زمن طغت فيه المادة , وتعلق الناس فيه بالأسباب إلا من رحم الله , إلى أن
يجدد في نفسه قضية الثقة بالله , والاعتماد عليه في قضاء الحوائج , وتفريج
الكروب , فقد يتعلق العبد بالأسباب , ويركن إليها , وينسى مسبب الأسباب
الذي بيده مقاليد الأمور , وخزائن السماوات والأرض , ولذلك نجد أن الله عز
وجل يبين في كثير من المواضع في كتابه هذه القضية , كما في قوله تعالى : {وكفى بالله شهيدا} (الفتح 28) , وقوله : {وكفى بالله وكيلا } (الأحزاب 3) , وقوله : { أليس الله بكاف عبده }
(الزمر 36) , كل ذلك من أجل ترسيخ هذا المعنى في النفوس , وعدم نسيانه في
زحمة الحياة , وفي السنة قص النبي صلى الله عليه وسلم قصة رجلين من الأمم
السابقة , ضربا أروع الأمثلة لهذا المعنى .
والقصة رواها البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (
أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل , سأل بعض بني إسرائيل أن يُسْلِفَه ألف
دينار , فقال : ائتني بالشهداء أُشْهِدُهُم , فقال : كفى بالله شهيدا , قال
: فأتني بالكفيل , قال : كفى بالله كفيلا , قال : صدقت , فدفعها إليه إلى
أجل مسمى , فخرج في البحر , فقضى حاجته , ثم التمس مركبا يركبها يقْدَمُ
عليه للأجل الذي أجله , فلم يجد مركبا , فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف
دينار , وصحيفةً منه إلى صاحبه , ثم زجَّجَ موضعها , ثم أتى بها إلى البحر ,
فقال : اللهم إنك تعلم أني كنت تسَلَّفْتُ فلانا ألف دينار , فسألني كفيلا
, فقلت : كفى بالله كفيلا , فرضي بك , وسألني شهيدا , فقلت : كفى بالله
شهيدا , فرضي بك , وأَني جَهَدتُ أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له , فلم
أقدِر , وإني أستودِعُكَها , فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه, ثم انصرف ,
وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده , فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر
لعل مركبا قد جاء بماله , فإذا بالخشبة التي فيها المال , فأخذها لأهله
حطبا, فلما نشرها , وجد المال والصحيفة , ثم قَدِم الذي كان أسلفه , فأتى
بالألف دينار , فقال : والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما
وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه , قال : هل كنت بعثت إلي بشيء , قال : أخبرك
أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه , قال : فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت
في الخشبة , فانْصَرِفْ بالألف الدينار راشدا )
هذه قصة رجلين صالحين من بني إسرائيل , كانا يسكنان بلدا واحدا على ساحل
البحر , فأراد أحدهما أن يسافر للتجارة , واحتاج إلى مبلغ من المال , فسأل
الآخر أن يقرضه ألف دينار , على أن يسددها له في موعد محدد , فطلب منه
الرجل إحضار شهود على هذا الدين , فقال له : كفى بالله شهيدا , فرضي بشهادة
الله , ثم طلب منه إحضار كفيل يضمن له ماله في حال عجزه عن السداد , فقال
له : كفى بالله كفيلا , فرضي بكفالة الله, مما يدل على إيمان صاحب الدين ,
وثقته بالله عز وجل , ثم سافر المدين لحاجته , ولما اقترب موعد السداد ,
أراد أن يرجع إلى بلده , ليقضي الدين في الموعد المحدد , ولكنه لم يجد
سفينة تحمله إلى بلده , فتذكر وعده الذي وعده , وشهادةَ الله وكفالتَه لهذا
الدين , ففكر في طريقة يوصل بها المال في موعده , فما كان منه إلا أن أخذ
خشبة ثم حفرها , وحشى فيها الألف الدينار, وأرفق معها رسالة يبين فيها ما
حصل له , ثم سوى موضع الحفرة , وأحكم إغلاقها , ورمى بها في عرض البحر ,
وهو واثق بالله , متوكل عليه , مطمئن أنه استودعها من لا تضيع عنده الودائع
, ثم انصرف يبحث عن سفينة يرجع بها إلى بلده , وأما صاحب الدين , فقد خرج
إلى شاطئ البحر في الموعد المحدد , ينتظر سفينة يقدُم فيها الرجل أو رسولا
عنه يوصل إليه ماله , فلم يجد أحدا , ووجد خشبة قذفت بها الأمواج إلى
الشاطئ , فأخذها لينتفع بها أهله في الحطب , ولما قطعها بالمنشار وجد المال
الذي أرسله المدين له والرسالة المرفقة , ولما تيسرت للمدين العودة إلى
بلده ,جاء بسرعة إلى صاحب الدين , ومعه ألف دينار أخرى , خوفا منه أن تكون
الألف الأولى لم تصل إليه , فبدأ يبين عذره وأسباب تأخره عن الموعد ,
فأخبره الدائن بأن الله عز وجل الذي جعله الرجل شاهده وكفيله , قد أدى عنه
دينه في موعده المحدد .
إن هذه القصة تدل على عظيم لطف الله وحفظه , وكفايته لعبده إذا توكل عليه
وفوض الأمر إليه , وأثر التوكل على الله في قضاء الحاجات , فالذي يجب على
الإنسان أن يحسن الظن بربه على الدوام , وفي جميع الأحوال , والله عز وجل
عند ظن العبد به , فإن ظن به الخير كان الله له بكل خير أسرع , وإن ظن به
غير ذلك فقد ظن بربه ظن السوء .